الثلاثاء، 19 يوليو 2016

عزانا و عزاهم !



عزانا و عزاهم !

كانت لنا جارة من اسكتلندا ، طاعنة في السن ، جمة الأدب ، كثيرة التبسم و التحية ، دؤوبة الحركة رغم كبر سنها ، و كان يسكن معها ابنها الأكبر "روبرت" ... يرعاها.
في احد الأيام ، طرق "روب" بابنا ليخبرنا بأنه أمه قد فارقت الحياة بالأمس. حزنت للخبر ، و تعجبت أني لم أسمع صراخ و نواح و عويل يخيف الجيران و يرعب الأطفال ، رغم أن حائطهم ملاصقاً لحائطنا ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.
احترت كيف أعزيه ، هل أبسمل ، أم أحوقل ، أم أسترجع؟ لا يفهم جاري معنى هذا الكلام .. هل أقول له "عظم الله أجركم؟" May God multiply your rewards" ؟ سيسألني " أي أجر؟" ،.. هل أقول له "البقية بحياتك ؟" "The remaining is in your life" سيتعجب عن أي بقية أتحدث ؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا. قلت له ما يقوله غيري : أنا آسف ، فتقبلها الرجل. سألته عن مكان الفاتحة ، أقصد العزاء ؟ قال لي في اليوم الفلاني و في المكان الفلاني جوار المقبرة الفلانية.

في يوم العزاء ، تهيأنا لأداء الواجب .. فاتشحت أنا و زوجتي بالسواد ، و توجهنا نبحث عن المكان. عندما اقتربنا من المكان أرادت زوجتي التأكد عن طريق البحث في الخارطة ، قلت لها : لا داعي ، أكيد ستدلنا مكبرات الصوت و هي ترتل آيات من الإنجيل الحكيم بصوت المقريء عبد البولص الفاتيكاني. لكن المكان كان هادئاً إلا من صوت العصافير. فتعجبت أن لا أجد صياحاً لمكبرات الصوت و هي تجوب عنان السماء و تقض مضاجع الناس ! لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.
قلت لأن فاتتنا المكبرات فلن تفوتنا خيمة العزاء أو سرادقه ، فبقينا نطوف في الشوارع علّنا نجد الخيمة أو نشم رائحة القهوة المميزة أو الهبيط المغلي، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. فتعجبت كيف سوف يجمعون كل المعزين من الجيران و الأقارب و فيهم من يأت من باقي المحافظات ، أم كيف سيعلم أهل المنطقة بوجود العزاء إذا لم تكن هناك خيمة تأوي الجميع و تسد الطريق؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.

لا مكبرات صوت و لا خيمة عزاء ، فلنبحث عن المقبرة إذاً! فصرنا ندور في شوارع المنطقة نبحث عن مقبرة بل جدوى ، فلا نجد غير متنزه وحيد ، لكن المكان هو نفس المكان الموصوف فأين المقبرة؟ فلما توقفنا للسؤال قيل لنا : هذه المقبرة ، و اشاروا إلى المتنزه الذي كنا ندور حوله ! فتعجبت ! هل هذه مقبرة؟ لأننا كنا نبحث عن مقبرة قبورها شاهقة ، و سراديبها غائرة ، لا زرع فيها و لا شجر ، و لا ورود فيها و لا ثمر ، يحيط بها التراب و الغبَر ، و تملؤها الأوساخ و فضلات البشر، منظرها يخلع القلوب ، و يملؤها وحشة لا تبقي طمأنينة و لا تذر! لكني تذكرت أن هذه ليست مقابرنا.

دخلنا المتنزه ، عفواً أقصد المقبرة ، و بدأنا البحث عن قاعة العزاء فيها ، سألتني زوجتي : كيف سنعرف مكان العزاء؟ قلت لها بسيطة: أكيد ستأتي نساء متوزرات متأبطات ، يملأنها صراخاً و عويلاً و ولولة فما علينا إلا اتباعهن. طبعاً لم يحدث من هذا شيء ، فما وجدنا غير قاعة بسيطة يسودها الهدوء و تعلوها السكينة. فتعجبت ! و قلت في نفسي : أين النواح؟ أين العويل؟ أين الصراخ؟ أين البكاء ؟ أين النحيب؟ ما هذا؟ موسيقى كلاسيكية هادئة؟ أهذا عزاء المرحومة؟ فتذكرت أن هذا ليس عزانا.
دخلنا قاعة العرس ، عفوا ًأقصد العزاء ، و هممت أن أقول "رحم الله والديه من قرأ سورة الفاتحة" ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا ، و يا خجلتاه ، كنا الوحيدين الذين يلبسون السواد ، فقد جمعت القاعة أبناء المرحومة بأرقى ثيابهم ، مع أطفالهم ، و كان الهدوء يعم الجميع ، حيث كانت المرحومة مسجاة في صندوق أنيق و هي تلبس أزهى ثيابها ، تحيط بها أكاليل الورود ، و في جنبها منصة يتقدم فيها تباعاً أقرباؤها كلُ يحكي قبساً من أخبارها و ذكرياتها معهم ، و هم يعرضون صورها في مختلف مراحل حياتها ، و ساد الجميع شعور بالراحة و الهدوء و هم يستمعون لسجل حياتها على أنغام الموسيقى الهائدة.

تعجبت ! و قلت في نفسي : أين السوالف و الأحاديث الودية الصاخبة على خلفية تلاوة القرآن لعبد الباسط ؟ أين السكائر و القهوة و ثواب حلاوة التمر ؟ ومتى يقدمون الغداء الدسم و العشاء اللذيذ و الفطور الكونتننتال للأخوة المعزين مجاناً و لثلاثة أيام متتاليات ثواباً لروح المرحومة؟ ثم ما هذا التخلف و برودة الأعصاب؟ أين قبلات المعزين و بكائهم المصطنع و نحيبهم يـ "يا يابه يا بويه شسويتي بينا أم روب" ؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.

انفض العزاء بعد أقل من ساعتين ، حيث ألقى الجميع عليها النظرة الأخيرة و هي بأبهى صورة ، و انسحب الصندوق الصقيل بهدوء ميكانيكي إلى قبو تحت قاعة العزاء حيث ستوارى مثواها الأخير ، و انصرف الجميع لبيوتهم. فسادني حزن عميق ، فلم يبق أحد ليلقن "أم روب " المحفوظة إياها التي ستواجه بها سطوة الثنائي المرعب "منكر و نكير" ، أو يذكرها بأن تبقى على العهد الذي تركتهم عليه من شهادة أن لا إله إلا الله ... و شهادة أن محمداً أو جيزس رسول الله ... و شهادة أن علياً و أولادة المعصومين حجج الله ... الخ من القائمة الطويلة إياها! أو يلقي في صندوقها صليباً من التراب المضغوط أو مسبحة تستأنس بها وقت الفراغ أو سعفة تكنس بها بهو القبر! 

لم يحصل شيء من هذا ، و لم يتبعها أحد من المعزين ، فخاب ظني ، لأني كنت قد هيأت كتفي لملحمة حمل التابوت - أقصد الصندوق - على الأكتاف و الطوف به خارج القاعة مع صراخ "يا أمنا العذراء" ، و خفضه و رفعه ثلاث مرات (ربما للتأكد من وفاة المرحومة بعد هذه الخضات الثلاث) ، و تصورت أننا سنضع التابوت ، عفواً أقصد الصندوق الصقيل ، فوق إحدى السيارات ونأخذها في رحلة خارج المدينة ، إلى المكان الذي تُضرب إليه آباط الإبل ، كي تزور مرقد أحد القديسين المعصومين الزيارة الأخيرة ، كي تستبريء الذمة و تطلب الرحمة و تجدد العهد ! فازداد غمي لما فات العزيزة المرحومة "أم روب" من الخير الكثير الكثير !
لكني تذكرت .... أن هذا ليس عزانا !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق