الثلاثاء، 19 يوليو 2016

معالم التطرف و القساوة في سيرة ابراهيم

معالم التطرف و القساوة في سيرة ابراهيم 


شأن النبي ابراهيم يختلف عن شأن باقي الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ، فهو حالة فريدة و شخصية نادرة ، من حيث كونها متطرفة في الأداء و في البلاء ، في الصغر و الكبر ، نلحظ ذلك من خلال المشاهد المختلفة من حياته كما وردت في الكتب السماوية و في القرآن تحديداً ، بدءاً من المواجهة مع قومه و انتهاءاً بمحاولة الشروع بذبح ولده ، مروراً بترك أهله في مكان مجدب بلا ماء . هذا الموضوع يقرأ مشاهد من سيرة ابراهيم من ناحية تحليلية مجردة خارج الهالة المقدسة التي تفرضها الآيديولوجية الدينية.

موضوع محنة ابراهيم يلقي الضوء على سيرة شخصية تجتمع فيها خصال الديانات التوحيدية الثلاث التي انبثقت منها و تسود العالم المتدين اليوم و تشكل عاملا ًمشتركاً في الإنتساب إلى عقيدته ، مع اختلافها في الشرائع و بعض الإعتقادات. و بالرغم من تناحر هذه الأديان مع بعضها و تسفيهها لبعضها البعض ، فإنها تتـفق جميعها على تقديس شخصية إبراهيم ، الذي يسميه بنو اسرائيل بـ " الأب الأول " و المسلمون بـ " أبو الأنبياء ".



الخصلة الأخرى التي تشترك فيها هذه الديانات الثلاث هي الدموية و القسوة الشديدة ضد المخالف في الراي و الإتجاه تحت مسمى العقيدة ، و هذا واضحاً من خلال التقصي التأريخي للفترات التي هيمنت بها هذه الأديان على الساحة و من خلال حملات الإبادة الدينية التي قادتها ضد شعوب المنطقة ، كما هي الحال في المجازر الرهيبة التي أرتكبها يوشع بن نون ضد الشعوب الكنعانية بأمر من الكتاب المقدس و التي لم يسلم منها حتى الأطفال ، و كما فعلت حملات الكنيسة الواسعة و مجازرها ضد "الوثنيين" بدءأً من القرن الرابع الميلادي و مروراً بحملات الإبادة ضد الساكسونيين الذين رفضوا الإنضمام للكنيسة و من ثم الحروب الصليبية التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى تفتتها بعد حرب الثلاثين عاماً الدموية. و لا يخفى على عاقل حملات التصفية أو التركيع المماثلة و غزوات التمدد و النهب التي شنتها الخلافة الإسلامية تحت واجهة الفتوحات الإسلامية.



تكاد تكون هذه العقلية القاسية صفة مميزة و طاغية للأديان الإبراهيمية الثلاث ، تسودها عقلية الشعب المختار أو المهيمن أو المفضل مع ملحقاتها من أمثال "خير أمة" أو "الطائفة الناجية" أو ألطائفة المنصورة" أو "المذهب الحق" و غيرها من المفردات التي تنفخ روح التعالي و العجرفة على بقية الناس و استصغارهم و التحقير من شأنهم.


في أي فترة عاش ابراهيم؟


كعادته في التركيز على الحدث دون الإسهاب في القضايا الجانبية ، لا يتطرق القرآن إلى تعيين الفترة التأريخية التي عاصرها ابراهيم ، لكننا نعرف من المصادر التأريخية أن ابراهيم عاصر زمن النمرود ، و يتفق المؤرخون المسلمون على أن الشخصية التي حاجت ابراهيم في ربه كما ذكر القرآن هي شخصية النمرود ، و ليس هذا نمرود نينوى ، بل هو نمرود " أور " الكلداني في مملكة بابل ، و المنحدر من سلاسة حام بن نوح ، و كانت مملكته تسمة أرض شنعار Shinar ، في حدود 2000 قبل الميلاد. 
أحد أهم الشخصيات التي كانت في حاشية النمرود كان تارح بن ناحور ، أحد "الأصلاب الشامخة !" ، المنحدر من سلالة سام بن نوح ، والذي كان له ثلاثة أبناء : ابراهيم و ناحور و هاران.
تقول الروايات الإسرائلية ، أن الكهنة اجتمعوا في بيت تارح ليلة ولادة ابراهيم و جعلوا ينظرون إلى السماء و نجومها ، فقرأوا فيها أن المولود الجديد سيصبح قائداً لأمة عظيمة ، و تسرب الخبر إلى النمرود ، الذي أمر تارح بأن يحضر وليده الجديد إلى القصر ليقتله. حاول تارح أن يثني الملك عن قراره فلم يفلح ، فلجأ إلى حيلة "شرعية" استبدل بها إبنه ابراهيم بإبن أحد العبيد الذين ولدوا في نفس اليوم الذي ولد فيه ابراهيم (أرجو أن لا يتصور أحد أن العبيد تعني أنهم بالضرورة سوود البشرة) . لم يفطن النمرود إلى الحيلة ، و أخذ الصبي البديل و قتله ظاناً أنه ابراهيم بن تارح. أما تارح "الشريف ذو الصلب الشامخ" فقام بأخفاء ابراهيم في كهف بعيدا ًعن أنظار الملك و عيونه ، و لبث ابراهيم في الكهف بضع سنين.
تقول الروايات الإسرائيلية ، أن ابراهيم بقي مخبئاً في الكهف عشر سنين ، اهتدى بها إلى الله عن طريق الإستقراء الكوني لحركة الشمس و القمر و الكواكب. قد تكون هذه اسرائيليات غير موثقة ، لكنها هنا تلتقي مع السرد القرآني في خطاب ابراهيم للكوكب و القمر و الشمس عندما رصد حركة كل منهم في السماء ، في الصباح و المساء ، حتى أيقن أنه لابد من مدبر لهذه الحركة و مهيمن على هذه الأجرام (( فلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين ، لما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين )) الأنعام (76-79) . تحرك ابرهيم الصبي إلى بقايا بيت سام ونوح ، حيث "أطلعه الله على وحيه و علمه طريقة عبادته" على حد تعبير المصادر الإسرائيلية.


!ثلاثة مشاهد


ما يثير الإنتباه في سيرة أبراهيم هو ثلاثة مشاهد تكشف حدة التطرف و انطلاق العزيمة إلى درجة لم يجرؤ عليها أي نبي بعده ، و هو شيء قد يفسر التزمت و القساوة التي اتسمت بها الديانات التي انحدرت منه ، خصوصاً أنها تجعل منه قدوة و أسوة في صلابة الموقف اتجاه أتباع العبادات و الديانات الأخرى ، فكما قلنا ، لم يكتب التأريخ فترة حكمت بها هذه الديانات إلا و رافقتها المجازر الجماعية لأتباع الديانات الأخرى ، بالإضافة إلى قساوة التشريعات التي صدرت عنها ، و خصوصاً شريعة موسى التي كانت تعاقب بالرجم حتى عقوق الوالدين!


المشهد الأول : في معبد الأصنام


في صباه ، و يبدو أن النمرود قد نسي قصة الصبي الذي هدد ملكه ، يدخل ابراهيم في مواجهة حادة مع قومه لم يألفوها من قبل ((اف لكم ولما تعبدون من دون الله افلا تعقلون ؟؟)) و فيها تسفيه مباشر لعقولهم ، ثم يعمد إلى معبد قومه فيكسّر أصنامهم بفأسه ، و هذه جرأة هائلة و مجازفة كبيرة في مواجهة مجتمع قومه لم يفعلها نبي قبله ولا بعده. حتى أن النبي محمد لبث في مكة يصلي في الكعبة و حولها و هي تعج بأصنام القبائل و مع ذلك لم يجرؤ على أن يمسها بسوء. قد تعزى جرأة ابراهيم هذه إلى أنه كان في غمرة شبابه و اندفاع عواطف الفتيان.
بعد مجادلة مع النمرود و مع قومه ، ينتهي الأمر بأن يجد ابراهيم نفسه محمولاً كي يلقى في نار عظيمة جزاء فعلته ، و لكنه غير آبه لهذه المصير ، مستسلماً له بكل جوارحه بالرغم من صغر سنه ، و لكن - حسب السرد القرآني - تتدخل العناية الإلهية في اللحظة الأخيرة و ينجو من الحرق ، حيث تتحول النار إلى برد وسلام.
يبدو أن هذه المعجزة لم تؤثر في قومه أو تجعلهم يصدقون بدعوته ، و لكنها بالتأكيد تركت أثرا ًعظيماً على شخصية ابراهيم و جعلته أكثر استسلاماً لإشارات الوحي و خضوعاً لإيحاءات السماء ، كما سنراها لاحقاً.


المشهد الثاني : ترك الزوجة و الطفل في الصحراء


هاجر ابراهيم مع زوجه سارة من أرض شنعار إلى مصر ، و منها عاد إلى جنوب فلسطين و معه جاريه اسمها هاجر كان قد وهبها ملك مصر لسارة - التي كانت عقيما - و هي بدورها وهبتها لابراهيم ، فولدت له ابنه الأول اسماعيل.
لا يذكر القرآن السبب الذي حدا بإبراهيم لأن يحمل هاجر و ابنهما الوليد الجديد من فلسطين الشام و يقطع بهما الفلاة جنوباً ليتركهما في مكان أجدب لا ماء فيه و لا زرع ، لكن الروايات الإسلامية تقول أن سارة غارت من هاجر حينما حملت باسماعيل ، و أن هاجر خافت ففرت منها ، و اضطر ابراهيم لأن يحمل هاجر و اسماعيل بعيداً عنها ! روى الطبري عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : " إن أول من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل ، وإن أول ما أحدث نساء العرب جر الذيول أم إسماعيل ، قال : لما فرت من سارة ، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت : إلى أي شيء تكلنا؟ إلى طعام تكلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ فجعل لا يرد عليها شيئا ، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا . قال : فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء ، أقبل على الوادي فدعا ، فقال (( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )) "
ربما يبدو الأمر طبيعياً للعقل الديني إذا تم تعليله بأنه من أمر الله ، لكن من ناحية إنسانية ، من هذا الذي يترك امرأته و ابنه الوليد في ذلك المكان الموحش حيث لا بشر فيه و لا شجر ، بلا ماء أو غذاء ، ثم يولي وجهه راجعاً ؟ و هب أنه أراد لأهله أن يسكنوا مكان البيت العتيق، فلم لم يسكن هو مع أسرته يَرُبَّهُم؟ هب أن سارة غارت ، فهل يستوجب هذا كل هذه المغامرة و تعريض عائلة للهلاك؟ إن قلبا ًاستطاع أن يفعل هذا بأهله لعلى قدر هائل من العزيمة و الشدة ، سواء كان الباعث غيرة زوجته الأولى ، أو وحياً من السماء ، و هو احتمال ضعيف لأننا لا نجد مبرراً لهذه المغامرة و المجازفة بحياة إمرأة و طفل!


 !المشهد الثالث: القربان البشري


هذا من أعجب و أصعب و أقسى المشاهد ، شروع ابراهيم بمحاولة ذبح ابنه و تقديمه كقربان .. لأنه رآى ذلك في رؤيا! و لكن يبدو أنه أخذ هذا من خلال مروره على الكنعانيين في فلسطين الذين كانوا يقدمون أبناهم قرابين للإله بعل !
و تعيد الذاكرة لإبراهيم محاولة قومه أن يقتلوه حرقاً بالرغم من أنه أثار هياجهم الديني ، و ها هو الآن يتهيأ لذبح ابنه ، المطيع ، الذي انتظره طويلاً ، بدون ذنب اقترفه ، فمن يقوى على هذا الفعل ؟




هنا موقف إبراهيم من ولده مغاير لموقف نوح من ولده ، بالرغم من أن ابن نوح كان من العاصين له و النافرين منه ،
 لكن مع ذلك رق له قلب نوح كأي أب يرق لولده ، و دعاه ليركب معه فأبى ، و عندما حال بينهما الموج وقع متضرعاً لربه ((يا رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق )) ، لكننا لم نر ابراهيم يراجع ربه في أمر ذبح ولده ، أو يطلب بينة واقعية ليطمئن قلبه ، تماماً كما طلبها من قبل ليرى كيف يحيي ربه الموتى ! بل استسلم لهاجس الرؤيا و عزم على أقسى عمل يمكن أن يؤديه إنسان.

و بغض النظر عن النهاية السعيدة لهذا "البلاء المبين" فإننا هنا نلمس أنانية ابراهيم المطلقة في سبيل ارضاء معبوده ، و لو على حساب حياة صبي بريء ، ناهيك عن أن يكون ابنه البكر الذي ظل ينتظره لعقود ، فتصرف و كأنه يملك حياة هذا الإنسان و له أن يضحي بها استجابة لرؤيا! لم يكن ابراهيم يدرك أو يتوقع بأن السماء ستتدخل في آخر لحظة لتغيير الخطة و إنقاذ الصبي من الذبح و كأن الأمر كله كان مزحة ! و الملحظ الغريب ، أن المشهد أغفل موقف أم اسماعيل هاجر و لا نعرف إن كان ابراهيم قد استشارها في ذبح ولدها و كأنها ليس لها نصيب فيه و هي التي الذي بذلت من أجله ما بذلت.

الملحظ الغريب الآخر هنا هو أن الأمر بالذبح لم يحدث بصورة مباشرة عن طريق الوحي كما حدث الفداء في اللحظات الحاسمة الأخيرة و بنداء جبريل و هو يجر كبش الفداء من قرنيه! فإذا كانت هذه أضغاث أحلام أو تخيلات تخيلها ابراهيم فلماذا تُرِكَ و اسماعيل أن يستغرقا النقاش و الإعداد للقربنة كل هذه الفترة؟ و ماذا عساها تترك تلك التجربة من أثر نفسي على الصبي و هو يرى سكين والده تقترب من لحم رقبته؟ 

المثير في الموضوع ، أننا نمر على هذه الحادثة بشيء من الرضا و الإعجاب بتفاني ابراهيم و استسلام اسماعيل من دون تدبر لخطورة التجربة و قساوة البلاء. إننا لا نقوى على أن نطيل النظر في مشهد الأب و هو يجر بابنه الصبي و في يده سكينة ليذبحه بها! ماذا يفعل أحدنا لو رأى شيخاً يفعل هذا بابنه؟ هل سنقف على جانب الطريق نصفق له و نشجعه و نبارك خطواته على أن يمضي قدماً لينحر رقبة هذا الصبي المسكين لمجرد أنه رأى رؤيا تأمره بذلك ، أم أننا كنا سنهجم على ذلك الشيخ لاستنقاذ الطفل من سكينه؟ ما فرقنا نحن عن تلك الشعوب التي نسميها بدائية و هي تقدم القرابين البشرية لآلهتها وسط صيحات و رقصات المؤمنين؟ 
لا يمكن بناء أي موقف أخلاقي على فتنة ابراهيم هذه ، و لا نستطيع تحسس العبرة ، و لا يمكن أن نعجب بهذا الموقف ، لكن العقل المتدين يؤمن بقداسة الحدث أمام النص ، و لأن الجانب الأخلاقي و الإنساني يقع في غيبوبة عن الوعي أمام النص المقدس فإنه لن يرى حراجة في ذلك. أننا إذا استبدلنا اسم ابراهيم باسم أي شخصية أخرى من الصين القديمة مثلاً و قدمناه تماماً كما قدمنا ابراهيم ، فأن ردة الفعل ستكون مختلفة ، عندها ستختفي هالة القداسة و يغيب النص ، فنرى الأمور على حقيقتها و سنحكم على هذه الشخصية كما لو كانت من الشخصيات الحاضرة اليوم ، و لن نتردد في وصفها بأنها شخصية قاسية و بدائية تؤمن بالقرابين البشرية لإرضاء الآلهة ! انظر كيف تلعب الألقاب و المفاهيم المسبقة فعلها في العقل المتدين فتحيله إلى آلة صماء لا روح فيها و لا نَفَس!
و الأهم من هذا كله ، هل لنا أن نسأل ماهي الغاية التي كانت تستوجب هذا الإمتحان الرهيب لنبي ثبت ولاؤه و إخلاصه و تسليمه و تضحيته بنفسه من أجل ربه و هو قد تجاوز المائة من عمره؟ هذا هو الموضع الوحيد الذي وصفه القرآن بأنه ((البلاء المبين)) ، و هذه هي محنة ابراهيم ..!


ماذا يعني هذا الكلام؟ 

من وجهة نظر الدين ، فإن هذا يعد تجديفا و انتهاكاً للقداسة و خروجاً عن الملة يستحق العقوبة ، لأن أول شيء يفكر فيه المتدينون هو العقوبة و البطش! أما من وجهة النظر المجردة من هيبة النص ، فإنها تحليل لشخصية تأريخية عاشت ثقافة و معتقدات أخلاقية قديمة كانت مقبولة لديهم ، لكننا نرفضها الآن و لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتأسى بها أن تكون لنا مثالاً يقتدى.
إننا في الوقت الحاظر لا يمكننا أن نقبل لأنفسنا أو لغيرنا أن نهدم الآثار بحجة أنها أصنام (كما فعلت طالبان في باميان و داعش في الموصل و تدمر) أو أن نترك امرأة و رضيعها في وسط وادٍ موحشٍ بلا ماء و لا غذاء ، و لا أن نجر بصبي لنذبحه كقربان للآلهة ، بمعنى آخر أننا بصورة عملية لا يمكننا أن نرضى الآن بما فعله ابراهيم فيما مضى من سالف الأزمان ، لأن المعايير الأخلاقية و الإنسانية قد تطورت و ووصلت إلى مراحل أرقى بكثير مما كان سائداً في عهد ابراهيم و من بعده ، وهذا يعني أن قيمنا الإنسانية و الأخلاقية – و بدون وعي منا – لا تستند إلى النصوص و المفاهيم المقدسة التي نحب أن نعتقد و بصورة عمياء أنها منبع الأخلاق ، و هي قضية يكذبها الواقع – و الواقع سيد الأدلة – الذي يثبت أن القيم الإنسانية و الأخلاقية تضمحل حيثما يحل النص المقدس ، و أن المتدينون هم أكثر الناس تزمتاً و احتقاراً لحقوق الإنسان و قمعاً لحريته ، رأينا هذا على مدار التأريخ في الأمم و الدول الدينية التي سادت باسم الدين ثم بادت ، و نراه اليوم في كل المجتمعات التي تضع قداسة النص أمام عقل الإنسان و حريته و تريد ادارة عجلة الحياة .. و لكن إلى الوراء ... حيث القرون الأولى !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق